-->

حمل المصحف

حمل المصحف

الخميس، 15 أبريل 2021

سورة ال عمران من 1 الي 37 صفحة او آية

تفسير

تفسير سورة آل عمران ابن كثير من 1 آية الي 37 آية

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)






آل عمران - تفسير ابن كثير











الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

تفسير سورة آل عمران
هي مدنية؛ لأن صدرها (1) إلى ثلاث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة، كما سيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى عند تفسير آية المباهلة منها، وقد ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة في أول تفسير [سورة] (2) البقرة.
{ الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنزلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) }
وقد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } عند تفسير آية الكرسي، وتقدم الكلام على قوله تعالى: { الم } في أول سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته، وتقدم أيضًا الكلام على قوله: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } في تفسير آية الكرسي.
وقوله تعالى { نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني: نزل عليك القرآن يا محمد { بِالْحَقِّ } أي: لا شك فيه ولا ريب، بل هو منزل من عند الله [عز وجل] (3) أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله (4) شهيدًا.
وقوله: { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي: من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها؛ لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت، من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن العظيم عليه.
وقوله: { وَأَنزلَ التَّوْرَاةَ } أي: على موسى بن عمران [عليه السلام] (5) { وَالإنْجِيلَ } أي: على عيسى ابن مريم.
{ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا القرآن. { هُدًى لِلنَّاسِ } أي: في زمانهما { وَأَنزلَ الْفُرْقَانَ } وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات، والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره، ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك.
وقال قتادة والربيع بن أنس: الفرقان هاهنا القرآن. واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا؛ لتقدم ذكر
__________
(1) في جـ: "صدورها"، وفي أ: "صورها".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من جـ، ر.
(4) في جـ، ر: "به".
(5) زيادة من جـ، أ.

(2/5)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

القرآن في قوله: { نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو القرآن. وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح أن المراد هاهنا بالفرقان: التوراة فضعيف أيضًا؛ لتقدم ذكرها، والله أعلم
وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ } أي: جحدوا بها وأنكروها، وردّوها بالباطل { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي: يوم القيامة { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي: منيع الجناب عظيم السلطان { ذُو انْتِقَامٍ } أي: ممن كذب بآياته (1) وخالف رسله الكرام، وأنبياءه العظام.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات والأرض، [و] (2) لا يخفى عليه شيء من ذلك.
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } أي: يخلقكم كما يشاء في الأرحام من ذكر وأنثى، [و] (3) حسن وقبيح، وشقي وسعيد { لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: هو الذي خلق، وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام، والحكمة والأحكام.
وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله [تعالى] (4) صوره في الرحم وخلقه، كما يشاء، فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى -عليهم لعائن الله-وقد تقلب في الأحشاء، وتنقل من حال إلى حال، كما قال تعالى: } يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ الزمر : 6]
{ هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أي: أصله
__________
(1) في جـ، ر: "آياته".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من جـ، و.
(4) زيادة من جـ.

(2/6)


الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أي: تحتمل (1) دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل (2) شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فروي عن السلف عبارات كثيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [أنه قال] (3) المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر (4) به ويعمل به.
وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومُقاتل بن حَيّان، والربيع بن أنس، والسُّدِّي أنهم قالوا: المحكم الذي يعمل به.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال: المحكمات [في] (5) قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ الأنعام : 151 ] والآيتان بعدها، وقوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23] إلى ثلاث آيات بعدها. رواه ابن أبي حاتم، وحكاه عن سعيد بن جُبَيْر [ثم] (6) قال: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد بن زيد، عن إسحاق بن سُوَيْد أن يحيى بن يَعْمَر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية: { هُنَّ (7) أُمُّ الْكِتَابِ } فقال أبو فاختة: فواتح السور. وقال يحيى بن يَعْمَر: الفرائض، والأمر والنهي، والحلال والحرام (8) .
وقال ابن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير: { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } يقول: أصل الكتاب، وإنما سماهن أم الكتاب؛ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب.
وقال مقاتل بن حيان: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهنّ.
وقيل في المتشابهات: إنهن المنسوخة، والمقدم منه والمؤخر، والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقيل: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، قاله مقاتل بن حيان.
وعن مجاهد: المتشابهات يصدق بعضهن بعضًا. وهذا إنما هو في تفسير قوله: { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] هناك ذكروا: أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار ثم حال (9) الفجار، ونحو ذلك فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم.
وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله، حيث قال: { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن (10) عليه.
قال: والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا (11) يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق.
__________
(1) في أ، ر: "يحتمل".
(2) في أ، ر: "يحتمل".
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(4) في جـ، ر: "يؤمن".
(5) زيادة من جـ، ر.
(6) زيادة من أ، و.
(7) في ر: "هي".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (2/55).
(9) في و: "وحال".
(10) في أ: "وصفن".
(11) في جـ: "لا".

(2/7)


ولهذا قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه (1) فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله [تعالى] (2) { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [الزخرف : 59] وبقوله: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله.
وقوله: { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } أي: تحريفه على ما يريدون (3) وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من (4) القرآن.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [فَأَمَّاالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ] (5) } إلى قوله: { أُولُو الألْبَابِ } فقال: "فإذا رأيتم الذين يُجَادِلُون فيه فهم الذين عَنَى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ (6) .
هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، رحمه الله، من رواية ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة، ليس بينهما أحد.
وهكذا رواه ابن ماجة من طريق إسماعيل بن عُلَيَّة وعبد الوهاب الثقفي، كلاهما عن أيوب، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عنها (7) .
ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، به. وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر (8) عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب. وقد رواه ابن حبان في صحيحه، من حديث أيوب، به.
وتابع أيوب أبو عامر الخزاز (9) وغيره عن ابن أبي مليكة، فرواه الترمذي عن بُنْدار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخزاز، فذكره. وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه، عن حماد بن يحيى الأبَحّ، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة. ورواه ابن جرير، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجُمَحِيّ، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به. وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة: حدثتني عائشةَ، فذكره (10) .
__________
(1) في جـ: "تصرفونه".
(2) زيادة من جـ، ر.
(3) في أ: "يريدونه".
(4) في جـ، ر، أ: "في".
(5) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(6) في أ: "فاحذرهم".
(7) المسند (6/48) وابن ماجة في السنن برقم (47).
(8) في ر: "يعمر".
(9) في هـ، جـ، ر، أ: "الخراز"
(10) عبد الرزاق في تفسيره برقم (376) وابن حبان في صحيحه (1/47) "الإحسان" والترمذي في السنن برقم (2993) وسعيد بن منصور في السنن برقم (492) وابن جرير في تفسيره (6/191).

(2/8)


وقد روى هذا الحديث البخاري، رحمه الله، عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السنة من سننه، ثلاثتهم، عن القَعْنَبِيِّ، عن يزيد بن إبراهيم التُّسْتَريّ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ] (1) } إلى قوله: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتَ الذين يتَّبِعُون ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ" لفظ البخاري (2) .
وكذا رواه الترمذي أيضًا، عن بندار، عن أبي داود الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري، به. وقال: حسن صحيح. وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد، وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ولم يذكروا القاسم. كذا قال (3) .
ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السَّدُوسِيّ -ولقبه عارم-حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به (4) .
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحَمّاد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يَتَّبِعُونَ ما تشابه منهُ فأولئك الذين سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ" (5) .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد (6) بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد حَذَّرَكُمُ اللهُ، فإذا رأيْتُمُوهم فَاعْرفُوهُمْ". ورواه ابن مَرْدُويه من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة به (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، عن أبي غالب قال: سمعت أبا أمامة يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { فَأَمَّاالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } قال: "هم الخوارج"، وفي قوله: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } .[آل عمران : 106] قال: "هم الخوارج".
وقد رواه ابن مردويه من غير وجه، عن أبي غالب، عن أبي أمامة مرفوعا، فذكره (8) .
__________
(1) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(2) البخاري في صحيحه برقم (4547) ومسلم برقم (2665) وأبو داود في السنن برقم (4598).
(3) سنن الترمذي برقم (2993، 2994).
(4) تفسير ابن المنذر كما في الدر (2/148) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (6/546) من طريق حماد بن زيد، به.
(5) تفسير ابن أبي حاتم (2/64)، ومسند الطيالسي برقم (1433).
(6) في أ: "أبو الوليد".
(7) تفسير الطبري (6/192)، ورواه الآجري في الشريعة (ص 332).
(8) أحمد في المسند (5/262) ورواه الطبراني في الكبير (8/325) وابن أبي حاتم في تفسيره (2/60) من طريق أبي غالب به.

(2/9)


وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفًا من كلام الصحابي، ومعناه صحيح؛ فإن أوّل بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم غنائم حُنَيْن، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخُوَيْصرة-بقر الله خاصرته-اعدل فإنك لم تعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خِبْتُ وخَسرْتُ إنْ لَمْ أكن أَعدل، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تَأمَنُونِي". فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية: خالد بن الوليد-[ولا بُعد في الجمع] (2) -رسول الله في قتله، فقال: "دَعْهُ فإنه يخرج من ضِئْضِئ هذا-أي: من جنسه -قوم يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يَمْرُقُونَ من الدين كما يَمْرُقُ السهم من الرّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجْرًا (3) لمن قتلهم .
ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب، وقتلهم (4) بالنَّهْروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحَلٌ كثيرة منتشرة، ثم نَبَعَت القَدَرَيّة، ثم المعتزلة، ثم الجَهْمِيَّة، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فِرْقَةً، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: [من] (5) هم يا رسول الله؟ قال: " من كان على ما أنا عليه وأصحابي" أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة (6) .
وقال الحافظ أبو يَعْلَى: حدثنا أبو موسى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن عن جندب بن عبد الله أنه بلغه، عن حذيفة -أو سمعه منه-يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: " إن في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن يَنْثُرُونَهُ نَثْر الدَّقَل، يَتَأوَّلُوْنَهُ على غير تأويله". [لم] (7) يخرجوه (8) .
[وقوله] (9) { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ } اختلف القراء في الوقف هاهنا، فقيل: على الجلالة، كما تقدم عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه (10) العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشعثاء، وأبي نَهِيك، وغيرهم.
وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير: حدثنا هاشم بن مرثد (11) حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا أخاف على أمّتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال
__________
(1) في و: "النبي".
(2) زيادة من جـ، ر.
(3) في ر: "أجر" وهو خطأ.
(4) في جـ، ر: "فقتلهم".
(5) في جـ، ر: "ومن".
(6) المستدرك (1/28) من حديث عبد الله بن عمرو، والزيادة هي قوله: "كلها في النار إلا واحدة"، وقد ضعفها ابن الوزير ونسبه إلى ابن حزم، وللشيخ ناصر الألباني بحث أثبت فيه صحة هذه الزيادة فليراجع السلسلة الصحيحة برقم (204).
(7) في جـ: "ولم".
(8) وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/300) وعزاه لأبي يعلى، لكنه ذكره من حديث عائشة.
(9) زيادة من و.
(10) في ر: "يعرفه".
(11) في هـ، جـ، ر، أ: "مزيد".

(2/10)


فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب (1) فيأخذه (2) المؤمن يبتغي تأويله، { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ] (3) } الآية، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه " غريب جدا (4) وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا أحمد بن عمرو، أخبرنا هشام بن عمار، أخبرنا ابن أبي حاتم (5) عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن ابن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به" (6) .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقرأ: "وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون: آمنا به" (7) وكذا رواه ابن جرير، عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس: أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود: "إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به". وكذا عن أبي بن كعب. واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد.
وقد روى ابن أبي نجَِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } الذي أراد ما أراد { إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المُحْكَمَة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه (8) بعضًا، فنفذت الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: "اللهم فَقِّهْهُ في الدين وعلمه التأويل".
ومن العلماء من فصل في هذا المقام، فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان، أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف : 100] وقوله (9) { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53] أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد
__________
(1) في ر، أ: "الكتب" وفي و: "تفتح لهم الكتب".
(2) في جـ: "ليأخذ".
(3) زيادة من أ، و.
(4) الطبراني في الكبير (3/292) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/128): "فيه محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه ولم يسمع من أبيه".
(5) في جـ، ر، أ، و: "حازم".
(6) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/1/197) وإسناده حسن.
(7) عبد الرزاق في تفسيره برقم (377).
(8) في جـ: "بعضهم".
(9) في أ: "وقال".

(2/11)


بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } مبتدأ و { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر (1) وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى: { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 ] أي: بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله: { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } حالا (2) منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } إلى قوله: { [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ] (3) يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا [الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ] (4) } الآية [ الحشر : 8-10 ]، وكقوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر : 22 ] أي: وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا.
وقوله إخبارًا عنهم أنهم { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي: بالمتشابه { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } أي: الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [ النساء : 82 ] ولهذا قال تعالى: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي: إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحِمْصَيّ، حدثنا نُعَيْم بن حماد، حدثنا فياض الرَّقِّيّ، حدّثنا عبد الله (5) بن يزيد -وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنسًا، وأبا أمامة، وأبا الدرداء، رضي الله عنهم، قال: حدثنا أبو الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم، فقال: "من بَرَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن أَعَفَّ (6) بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم" (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عمر بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل (8) كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فَكِلُوهُ إلى عَالِمِه" (9) .
__________
(1) في أ: "الأخير".
(2) في ر: "حال" وهو خطأ.
(3) زيادة من أ، و.
(4) زيادة من أ، و.
(5) في و: "عبيد الله".
(6) في أ، و: "عف".
(7) تفسير ابن أبي حاتم (2/72) ورواه الطبري (6/207) والطبراني في الكبير كما في الدر (2/151) من طريق عبد الله بن يزيد به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/324): "عبد الله بن يزيد ضعيف".
(8) في جـ، ر، أ، و: "نزل".
(9) المسند (2/185) ورواه ابن ماجة برقم (85) والبغوي في شرح السنة (1/260) من طريق عمرو بن شعيب به. وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجة" (1/58): "إسناده صحيح ورجاله ثقات".

(2/12)


و[قد] (1) تقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث، من طريق هشام بن عمار، عن ابن أبي حازم (2) عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، به.
وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا أنس بن عياض، عن أبي حازم، عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، أن (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، والمِرَاءُ في القرآن كفر -ثلاثًا-ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه".
وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي: "لا أعلمه إلا عن أبي هريرة" (4) .
وقال ابن المنذر في تفسيره: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني نافع بن يزيد قال: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاطون (5) من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. [ولهذا قال تعالى: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي: إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة أو الفهوم المستقيمة] (6) .
ثم قال تعالى عنهم مخبرًا أنهم (7) دعوا ربهم قائلين: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } أي: لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ } أي: من عندك { رَحْمَةً } تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا { إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِي -وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب -قالا جميعًا: حدثنا وَكِيع، عن عبد الحميد بن بَهْرام، عن شهر بن حَوْشَب، عن أم سلمة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك" ثم قرأ: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } رواه ابن مردويه من طريق محمد بن بَكَّار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، وهي (8) أسماء بنت يزيد (9) بن السكن، سمعها تحد ث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه: "اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك" قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب (10) ؟ قال: "نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه". فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله. ورواه أيضًا عن المثنى، عن الحجاج بن مِنْهَال، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله، وزاد: "قلت (11) يا رسول الله،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ، ر، أ: "حاتم".
(3) في أ: "فإن".
(4) أبو يعلى في المسند برقم (6016) ومن طريقه رواه ابن حبان في صحيحه (1/146) "الإحسان" ورواه أحمد في المسند (2/300) والنسائي في الكبرى (5/33) من طريق أنس بن عياض به. وليس في رواية النسائي الشك "لا أعلمه".
(5) في جـ، أ: "يتعاظمون".
(6) زيادة من جـ، ر،أ.
(7) في جـ، ر: "عنهم".
(8) في و: "عن".
(9) في أ: "زيد".
(10) في و: "ليقلب".
(11) في أ، و: "وزاد: "قالت: قلت".

(2/13)


ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: "بلى قولي: اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيْظ قلبي، وأجِرْنِي من مُضِلاتِ الفتن" (1) .
ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي، أخبرنا العباس بن الوليد الخلال، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله، أخبرنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج (2) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء. فقال: "ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } . غريب من هذا الوجه، ولكن أصله ثابت في الصحيحين، وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة.
وقد روى أبو داود والنسائي وابن مردويه، من حديث أبي عبد الرحمن المقري -زاد النسائي وابن حبان: وعبد الله بن وهب، كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب حدّثني عبد الله بن الوليد التُّجيبي، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمة، اللهم زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" لفظ ابن مردويه (3) .
وقال عبد الرزاق، عن مالك، عن أبي عبيد -مولى سليمان بن عبد الملك-عن عبادة بن نُسَيّ، أنه أخبره، أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصُنَابِحي، أنه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين (4) بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل، وقرأ في الركعة الثالثة، قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ (5) بأم القرآن وهذه الآية: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] (6) (7) } .
قال أبو عبيد: وأخبرني عُبَادة بن نُسَيّ: أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، فقال عمر لقيس: كيف أخبرتني عن أبي عبد الله الصنابحي فأخبره بما سمع أبا عبد الله ثانيا. قال عمر: فما تركناها منذ سمعناها منه، وإن كنت (8) قبل ذلك لَعَلَى غير ذلك. فقال له رجل: على أي شيء كان
__________
(1) ابن أبي حاتم في تفسيره (2/84) والطبري في تفسيره (6/213) ورواه أحمد في المسند (6/315) والترمذي في السنن (3522) وابن أبي عاصم في السنة برقم (223) من طريق أبي كعب صاحب الحرير عن شهر بن حوشب به. وللحديث شواهد عن عائشة وأنس وجابر والنواس بن سمعان رضي الله عنهم.
(2) في هـ، جـ، ر، أ: "عن حسان الأعرج".
(3) أبو داود في السنن برقم (5061) والنسائي في الكبرى برقم (10701).
(4) في ر: "الأولتين".
(5) في و: "يقرأ أي في الثالثة".
(6) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(7) رواه مالك في الموطأ (1/79).
(8) في أ: "كعب".

(2/14)


أمير المؤمنين قبل ذلك؟ قال: كنت أقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1] وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم، عن مالك والأوزاعي، كلاهما عن أبي عبيد، به.ورواه الوليد أيضًا، عن ابن جابر، عن يحيى بن يحيى الغساني، عن محمود بن لبيد، عن الصُّنَابِحي: أنه صلى خلف أبي بكر، رضي الله عنه، المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، يجهر بالقراءة، فلما قام إلى الثالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه، فقرأ هذه الآية: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ] (1) } .
وقوله: { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي: يقولون في دعائهم: إنك -يا ربنا-ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم (2) فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلا بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
__________
(1) زيادة من جـ، ، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(2) في أ، و:"بينهم".

(2/15)


( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )




======من0 1 الي 15 ===



إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)


من 10 الي

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) }
يخبر تعالى عن الكفار أنهم وقود النار، { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 52 ] وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، بل كما قال تعالى: { وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 85 ] وقال تعالى: { لا (1) يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران:196: 197 ] كما قال هاهنا: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: بآيات الله وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } أي: حطبها الذي تسجر به وتوقد به، كقوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ] } (2) [الأنبياء:98].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا ابن لَهِيْعة، أخبرني ابن الهاد، عن هند بنت الحارث، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت: بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، فقال (3) هل بلغت، اللهم هل بلغت..." ثلاثًا، فقام عمر بن الخطاب فقال: نعم. ثم أصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وَلَتَخُوضُنَّ (4) البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه، ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن هذا الذي هو خير منا، فهل في أولئك من خير؟" قالوا: يا رسول الله، فمن أولئك؟ قال: "أولئك منكم (5) وأولئك هم
__________
(1) في جـ، ر: "ولا" وهو خطأ.
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(3) في أ، و: "فنادى".
(4) في أ: ":وليخوضن".
(5) في جـ، أ، و: منهم".

(2/15)


وقود النار". وكذا رأيته بهذا اللفظ.
وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن هند بنت الحارث، امرأة عبد الله بن شداد، عن أم الفضل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال: "هل بلغت" يقولها ثلاثا، فقام عمر بن الخطاب -وكان أوَّاها-فقال: اللهم نعم، وحرصتَ وجهدتَ ونصحتَ فاصبر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليظهرن الإيمان حتى يردّ الكفر إلى مواطنه، وليخوضنّ رجال البحار بالإسلام (1) وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن، فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون: قد قرأنا، وقد علمنا، فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير" قالوا: يا رسول الله، فمن أولئك؟ قال: "أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار" (2) ثم رواه من طريق موسى بن عبيد، عن محمد بن إبراهيم، عن بنت الهاد، عن العباس بن عبد المطلب بنحوه.
وقوله تعالى: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } قال الضحاك، عن ابن عباس: كصنيع آل فرعون. وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك، والضحاك، وغير واحد، ومنهم من يقول: كسنة آل فرعون، وكفعل آل فرعون وكشبه (3) آل فرعون، والألفاظ متقاربة. والدأب -بالتسكين، والتحريك أيضًا كنَهْر ونَهَر-: هو الصنع (4) والشأن والحال والأمر والعادة، كما يقال: لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم ... يقولون: لا تهلك (5) أسى وتجمل (6)
كدأبك من أم الحويرث (7) قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل (8)
والمعنى: كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها.
والمعنى في الآية: أن الكافرين لا تغني (9) عنهم الأولاد ولا الأموال، بل يهلكون ويعذبون، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل (10) فيما جاؤوا (11) به من آيات الله وحججه.
{ [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ] (12) وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي: شديد الأخذ أليم العذاب، لا يمتنع منه أحد، ولا يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد، الذي [قد] (13) غلب كل شيء وذل له كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
(1) في جـ: "بإسلامهم".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (2/90) وفيه ابن لهيعة، وقد توبع، تابعه عبد العزيز بن أبي حازم عن يزيد بن الهاد به. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/250) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (1/186) "رجاله ثقات، إلا أن هند بنت الحارث الخثعمية التابعية لم أر من وثقها ولا من جرحها".
(3) في أ، و: "وكشبيه".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و: "الصنيع".
(5) في جـ، ر، أ، و: "تأسف".
(6) في جـ، ر، أ: "تحملي"، وفي و: "تحمل".
(7) في أ: "الحويرة".
(8) البيت في تفسير الطبري (6/225) وديوان امرئ القيس (125)، والبيت من معلقته المشهورة.
(9) في ر، أ "يغني".
(10) في جـ، ر: "بالرسل".
(11) في جـ، ر، أ، و: "جاءوهم".
(12) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(13) زيادة من أ، و.

(2/16)


قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (13) }
يقول تعالى: قل يا محمد للكافرين: { سَتُغْلَبُونَ } أي: في الدنيا، { وَتُحْشَرُونَ } أي: يوم القيامة { إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن (1) يسار، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قَيْنُقَاع وقال: " يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله ما (2) أصاب قريشًا". فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو (3) قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } إلى قوله: { لَعِبْرَةً (4) لأولِي الأبْصَارِ } (5) .
وقد رواه ابن إسحاق أيضًا، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس فذكره؛ ولهذا قال تعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } أي: قد كان لكم -أيها اليهود القائلون ما قلتم -{ آيَةٌ } أي: دلالة على أن الله معز دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته، ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ } أي: طائفتين { الْتَقَتَا } أي: للقتال { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وهم المسلمون، { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش يوم بدر.
وقوله: { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } قال بعض العلماء -فيما حكاه ابن جرير: يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم، أي: جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم. وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر (6) لهم المسلمين، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا. وهكذا كان الأمر، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.

والقول الثاني: " أن المعنى في قوله: { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } أي: ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي: ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم (7) الله عليهم. وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي، عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين (8) كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا. وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد
__________
(1) في ر: "عن".
(2) في جـ، ر: "بما".
(3) في جـ، ر: "إن".
(4) في ر، و: "عبرة".
(5) السيرة لابن إسحاق (ق 162 ظاهرية).
(6) في أ، و: "يحرز".
(7) في أ: "نصر".
(8) في جـ، ر، أ: "والمشركون".

(2/17)


الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش، فقال: كثير، قال: "كم ينحرون كل يوم؟" قال: يومًا تسعًا (1) ويومًا عشرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف" (2) .
وروى (3) أبو إسحاق السَّبِيعي، عن حارثة، عن علي، قال: كانوا ألفًا، وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم. لكن وجه ابن جرير هذا، وجعله صحيحًا كما تقول: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون (4) محتاجًا إلى ثلاثة آلاف، كذا قال. وعلى هذا فلا إشكال.
لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال: ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر: { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } ؟ [ الأنفال : 44 ] والجواب: أن هذا كان في حال، والآخر كان في حال (5) أخرى، كما قال السُّدِّي، عن [مرة] الطيب (6) عن ابن مسعود في قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ] (7) } الآية، قال: هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا، وذلك قوله (8) تعالى: { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } .
وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي (9) تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا. فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي: أكثر منهم بالضعف، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم، عز وجل. ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصاف (10) والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، ليقدم كل منهما على الآخر.
{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي: ليفرّق بين الحق والباطل، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] وقال هاهنا: { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي: إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
__________
(1) في جـ، ر، أ: "قال ينحرون يوما تسعا".
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/616).
(3) في أ: "قال".
(4) في أ:"ويكون".
(5) في أ، و: "حالة".
(6) في هـ: "عن الطيب".
(7) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(8) في جـ، ر، أ، و: "قول".
(9) في جـ، ر: "جنبي".
(10) في أ، و: "المصاف".

(2/18)


زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }
يخبر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه، عليه السلام، قال (1) مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء". فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه، "وإنَّ خَيْرَ هَذه الأمَّةِ كَانَ أكْثرهَا نسَاءً" (2) وقوله، عليه السلام (3) الدُّنْيَا مَتَاع، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ، إنْ نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه، وإنْ غَابَ عَنْها حَفِظْتُه في نَفْسهَا وَمَالِهِ" (4) وقوله في الحديث الآخر: "حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ (5) وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي الصَّلاةِ" (6) وقالت عائشة، رضي الله عنها: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل، وفي رواية: من الخيل إلا النساء (7) .
وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، كما ثبت في الحديث: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ" (8)
وحب المال -كذلك-تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح محمود (9) عليه شرعًا.
وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال، وحاصلها: أنه المال الجزيل، كما قاله
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "أنه قال صلى الله عليه وسلم"، وفي ر: "أنه قال عليه السلام".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5069) موقوفا على ابن عباس.
(3) في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1467) والنسائي في السنن (6/69) وابن ماجه في السنن برقم (1855) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(5) في جـ، ر: "الطيب والنساء".
(6) رواه أحمد في المسند (3/128) والنسائي في السنن (7/61) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(7) رواه النسائي في الكبرى (4404) من طريق سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك، به. وله شاهد من حديث معقل بن يسار، رواه أحمد في مسنده (5/27).
(8) رواه أبو داود في السنن برقم (2050) والنسائي في السنن (6/65) وابن حبان في صحيحه برقم (1229) "موارد" والحاكم في المستدرك (2/162) وصححه وأقره الذهبي من حديث معقل بن يسار.
ورواه أحمد في المسند (3/158) وابن حبان في صحيحه برقم (1228) والبيهقي في السنن الكبرى (7/81، 82) من حديث أنس بن مالك.
(9) في ر: "محسود".

(2/19)


الضحاك وغيره، وقيل: ألف دينار. وقيل: ألف ومائتا دينار. وقيل: اثنا عشر ألفا. وقيل: أربعون ألفا. وقيل: ستون ألفا وقيل: سبعون ألفا. وقيل: ثمانون ألفا. وقيل غير ذلك.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا (1) حماد، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْف أوقيَّةٍ، كُلُّ أوقِيَّةٍ خَيْر مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ".
وقد رواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد ابن سلمة، به. وقد رواه ابن جرير عن بُنْدار، عن ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن عاصم -هو ابن بَهْدَلة-عن أبي صالح، عن أبي هريرة (2) موقوفا، وهذا أصح. وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر. وحكاه ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة وأبي الدرداء، أنهم قالوا: القنطار ألف ومائتا أوقية.
ثم قال ابن جرير: حدثني زكريا بن يحيى الضرير، حدثنا شبابة، حدثنا مَخْلَد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن زِرّ بن حُبَيْش عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القِنْطَارُ ألْفُ أوقِيَّةٍ ومائَتَا أوقِيَّةٍ" (3) .
وهذا حديث منكر أيضًا، والأقربُ أن يكون موقوفا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة. وقد روى ابن مَرْدُويَه، من طريق موسى بن عُبَيْدة الرَبَذِي (4) عن محمد بن إبراهيم عن يحنَّش (5) أبي موسى، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأ مائة آيةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، ومَنْ قَرَأ مِائَةَ آيةٍ إِلَى ألْف أصْبَح لَهُ قِنْطار مِنْ أجْرٍ عندَ الله، القِنْطارُ مِنْهُ مِثلُ الجبَلِ العَظِيمِ". ورواه وَكِيع، عن موسى بن عُبَيدة، بمعناه (6) وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي بتنِّيس (7) حدثنا عَمْرو (8) بن أبي سلمة، حدثنا زهير بن محمد، حدثنا حُمَيد الطويل، ورجل آخر، عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله، عز وجل: { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ } قال: "القِنْطَارُ ألفا أُوقِيَّةٍ". صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، هكذا رواه الحاكم (9) .
__________
(1) في جـ: "عن".
(2) المسند (2/363) وابن ماجة في السنن برقم (3660) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (663) "موارد". قال البوصيري في مصباح الزجاجة: "إسناده صحيح ورجاله ثقات" والأرجح تحسينه للكلام في عاصم بن بهدلة. ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (6/244) موقوفا.
(3) تفسير الطبري (6/245) وفي إسناده مخلد بن عبد الواحد، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدا".
(4) في جـ، ر: "الترمذي".
(5) في جـ، ر: "يحنس".
(6) ورواه عبد بن حميد في تفسيره، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/107) من طريق وكيع به، وهو مضطرب، فتارة يروى خمسين، وتارة يروى ألفا، وتارة يروى مائة،وقد اختلف فيه على موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
(7) في ر: "تبتيس".
(8) في المخطوطة أ، و: "محمد بن عمرو بن أبي سلمة" وهو خطأ.
(9) المستدرك (2/178) وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وفي إسناده عمرو بن أبي سلمة الشامي ضعيف خاصة إذا روى عن زهير. قال الإمام أحمد: "روى عن زهير أحاديث بواطيل كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله فغلط فقلبها زهير".

(2/20)


وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الرَّقِّي، حدثنا عمرو ابن أبي سلمة، حدثنا زهير -يعني ابن محمد-حدثنا حميد الطويل ورجل آخر قد سماه-يعني يزيد الرَّقَاشي-عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: قنطار، يعني: "ألف دينار". وهكذا [رواه] (1) ابن مَرْدُويه، ورواه (2) الطبراني، عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم، عن عَمْرو بن أبي سلمة، فذكر بإسناده مثله سواء (3) .
وروى ابن جرير عن الحسن البصري مرسلا عنه وموقوفا عليه: القنطار ألف ومائتا دينار. وكذا (4) رواه العَوْفي عن ابن عباس.
وقال الضحاك: من العرب من يقول: القنطار ألف دينار. ومنهم من يقول: اثنا عشر ألفا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عارِم، عن حَمّاد، عن سعيد الجُرَيرِي (5) عن أبي نضْرة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: [القنطار] (6) ملء مَسْك الثور ذهبا.
قال أبو محمد: ورواه محمد بن موسى الحرشي، عن حماد بن زيد، مرفوعا. والموقوف أصح (7) .
وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطَها أصحابُها معدَّة لسبيل الله تعالى، متى احتاجوا إليها غزَوا عليها، فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا ونواء لأهل الإسلام، فهذه على صاحبها وزْر. وتارة للتعفف واقتناء نسلها. ولم يَنْسَ حق الله في رقابها، فهذه لصاحبها ستْر، كما سيأتي الحديث بذلك [إن شاء الله تعالى] (8) عند قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ] (9) } [ الأنفال : 60 ].
وأما { الْمُسَوَّمَةِ } فعن ابن عباس، رضي الله عنهما: المسومة الراعية، والمُطَهَّمة الحسَان، وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن عبد الله (10) بن أبْزَى، والسُّدِّي، والربيع بن أنس، وأبي سِنَان وغيرهم.
وقال مكحول: المسومة: الغُرَّة والتحجيل. وقيل غير ذلك.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن (11) يزيد بن أبي حبيب، عن سُوَيْد بن قيس، عن معاوية بن حُدَيج، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليسَ مِنْ فَرَسٍ عَرَبِي إلا يُؤذَنُ لَهُ مَعَ كُلِّ فَجْر يَدْعُو بِدَعْوَتَيْنِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّكَ خَوَّلْتَنِي مِنْ خَوَّلْتَني من]
__________
(1) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(2) في و: "عن".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/111) وفي إسناده عمرو بن أبي سلمة وهو ضعيف كما سبق كلام الإمام أحمد عنه.
(4) في و: "وهو".
(5) في هـ، جـ، أ، و: "الجرشي" وهو خطأ.
(6) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(7) تفسير ابن أبي حاتم (2/115) ورواه الطبري في تفسيره (6/248) من طريق سعيد الجريري عن أبي نضرة موقوفا.
(8) زيادة من جـ، أ.
(9) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(10) في جـ، ر، أ، و: "عبد الله بن عبد الرحمن".
(11) في جـ، ر: "حدثني".

(2/21)


(1) بَنِي آدَم، فاجْعَلنِي مِنْ أحَبِّ مَالِهِ وأهْلِهِ إليه، أوْ أحَب أهْلِه ومالِهِ إليهِ" (2) .
وقوله: { وَالأنْعَامِ } يعني: الإبل والبقر والغنم { وَالْحَرْث } يعني: الأرض (3) المتخذة للغِرَاس والزراعة (4) .
قال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا أبو نعامة العدوي، عن مسلم بن بُدَيل (5) عن إياسِ بن زهير، عن سُويد بن هُبَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ مَالِ امرئ لَهُ مُهْرة مَأمُورة، أو سِكَّة مَأبُورة" (6) المأمورة الكثيرة النسل، والسّكَّة: النخل المصطف، والمأبورة: الملقحة.
ثم قال تعالى: { ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } أي: حسن المرجع والثواب.
وقد قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عُمَر بن سعد قال: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لما أنزلت: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ] (7) (8) } .
ولهذا قال تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ } أي: قل يا محمد للناس: أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها، الذي هو زائل لا محالة. ثم أخبر عن ذلك، فقال: { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار، من أنواع الأشربة؛ من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{ خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين فيها أبد الآباد (9) لا يبغون (10) عنها حِوَلا.
{ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي: من الدَّنَس، والخَبَث، والأذى، والحيض، والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا.
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } أي: يحل عليهم رضوانه، فلا يَسْخَط عليهم بعده أبدا؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة: { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم،
__________
(1) زيادة من جـ، ر، أ، و، والمسند.
(2) المسند (5/170) ورواه الحاكم في المستدرك (2/144) من طريق يحيى بن سعيد به، وقال: صحيح الإسناد على شرطهما ووافقه الذهبي.
(3) في جـ، ر: "الأراضي".
(4) في جـ : "للزراعة والغراس".
(5) في أ: "نديل".
(6) المسند (3/468) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (10/64) والطبراني في المعجم الكبير (7/107) من طريق مسلم بن بديل به، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/258): "رجال أحمد ثقات".
(7) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(8) تفسير الطبري (6/244).
(9) في جـ، ر: "فيها أبدا".
(10) في جـ، ر: "يجدون".

(2/22)


ثم قال [تعالى] (1) { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي: يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.
__________
(1) زيادة من جـ، أ. (2/23) 
=من 16 الي 22 ص====

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
التفسير من ابن كثير 


{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ (17) }
يصف تعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل، فقال تعالى: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا } أي: بك وبكتابك وبرسولك { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من (1) أمرنا بفضلك ورحمتك { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
ثم قال: { الصَّابِرِين } أي: في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات { وَالصَّادِقِينَ } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة { وَالقَانِتِينَ } والقنوت: الطاعة والخضوع (2) { والْمُنفِقِينَ } أي: من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخَلات، ومواساة ذوي الحاجات { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار.

وقد قيل: إن يعقوب، عليه السلام، لما قال لبنيه: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [يوسف:98 ] أنه أخرهم إلى وقت السحر. وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند (3) والسنن، من غير وجه، عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر (4) فيقولُ: هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ ؟" الحديث (5) وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءًا على حدة (6) فرواه من طرق متعددة.
وفي الصحيحين، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: مِنْ كُلِّ اللَّيلِ قَدْ أوْترَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، مِنْ أولِهِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتره إلَى السّحَرِ (7) .
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السَّحَر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن حُرَيْث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك،
__________
(1) في و: "في".
(2) في أ: "الخشوع".
(3) في أ: "المسانيد".
(4) في أ: "الأخير".
(5) جاء من حديث أبي هريرة: رواه البخاري في صحيحه برقم (7494) وبرقم (6321) ورواه مسلم في صحيحه برقم (758) وأبو داود في السنن برقم (1315) والترمذي في السنن برقم (4398).
وجاء من حديث أبي سعيد الخدري وجبير بن مطعم ورفاعة الجهني وعلي بن أبي طالب وابن مسعود. انظر الكلام عليها في كتاب إرواء الغليل للشيخ ناصر الألباني (2/450).
(6) في أ: "حدته".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (996)، ورواه مسلم في صحيحه برقم (745).

(2/23)


شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

وهذا سحر، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابن مسعود، رضي الله عنه (1) .
وروى ابن مَرْدُويه عن أنس بن مالك قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أنْ نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) }
شهد (2) تعالى -وكفى به شهيدا، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين-{ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي: المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ (3) شَهِيدًا } الآية [ النساء : 166 ] .
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام.
{ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } منصوب على الحال، وهو في جميع الأحوال كذلك.
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } تأكيد لما سبق { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } العزيز: الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثني جبير بن عَمْرو القرشي، حدثنا أبو سَعِيد (4) الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفةَ يقرأ هذه الآية: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } "وأَنَا عَلَى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يا رَبِّ" (5) .
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، فقال: حدثنا علي بن حسين، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني، حدثنا عُمَر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ } قال: "وأَنَا أشْهَدُ أيْ رَبِّ" (6) .
__________
(1) تفسير الطبري (6/266) وفي إسناده سفيان بن وكيع ضعيف، وحديث ابن أبي مطر ضعفه أبو حاتم وابن معين والبخاري.
(2) في و: "يشهد".
(3) في جـ ، ر: "به" وهو خطأ.
(4) في أ، و: "أبو سعد".
(5) المسند (1/166) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/325): "في إسناده مجاهيل".
(6) تفسير ابن أبي حاتم (2/146) وفي إسناده مجاهيل".

(2/24)


وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي قالا حدثنا عَمَّار بن عمر بن المختار، حدثني أبي، حدثني غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كانت ليلة أردتُ أن أنْحَدِرَ قام فتهجد من الليل، فمر بهذه الآية: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } قالها مرارا. قلت: لقد سمع فيها شيئا، فغدوت إليه فودعته، ثم قلت: يا أبا محمد، إني سمعتك تردد هذه الآية. قال: أو ما بلغك ما فيها؟ قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة. فأقمت سنة فكنت على بابه، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد، قد مضت السنة. قال: حدثني أبو وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ القِيامَةِ، فَيَقُولُ الله عز وجل: عَبْدِي عَهِدَ إلَيَّ، وأنَا أحَقُّ مَن وَفَّى بالْعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ" (1) .
وقوله: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل. كما قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ (2) غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (3) } [آل عمران:85 ] وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ }
وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } بكسر إنه وفتح { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } أي: شهد هو وملائكته وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام. والجمهور قرأوها بالكسر على الخبر، وكلا المعنيين صحيح. ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم.
ثم أخبر تعالى بأن (4) الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة، بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، فقال: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي: بغى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بُغْض البَعْض الآخر (5) على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقا، ثم قال: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي: من جحد بما أنزل (6) الله في كتابه فإن الله
__________
(1) المعجم الكبير (10/245) وقال الهيثمي في المجمع (6/326): "فيه عمر بن المختار وهو ضعيف". ورواه ابن عدي في الكامل (5/36) من طريق عمار بن عمر المختار به. قال: "لا يحدث به غير عمر المختار، ومقدار ما يرويه فيه نظر".
(2) في أ: "يتبع".
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(4) في أ، و: "أن".
(5) في جـ: "فحمل بعضهم على بغض الآخر".
(6) في أ، و: "أنزله".

(2/25)


سيجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه (1)
ثم قال تعالى: { فَإِنْ حَاجُّوكَ } أي: جادلوك في التوحيد { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } أي: فقل أخلصت عبادتي لله وحده، لا شريك له ولا ند [له] (2) ولا ولد ولا صاحبة له { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } على ديني، يقول كمقالتي، كما قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ] (3) } [ يوسف : 108 ].
ثم قال تعالى آمرًا لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه، والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين (4) من الملتين والأميين من المشركين فقال: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } أي: والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك، والحجة البالغة؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي: هو (5) عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 33 ] وما ذاك (6) إلا لحكمته ورحمته.
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صَلوات الله وسلامه (7) عليه، إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير (8) ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1] وفي الصحيحين وغيرهما، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف (9) بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم، امتثالا لأمر الله له بذلك. وقد روى عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة، عن النبي (10) صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ" رواه مسلم (11) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ" (12) وقال: "كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً". وقال الإمام أحمد: حدثنا مُؤَمِّل، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت عن أنس، رضي الله عنه: أن غلاما يهوديا كان يَضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضُوءه ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فُلانُ، قُلْ: لا إله إلا الله" فَنَظَرَ إلَى أبيه، فَسَكَتَ أبوه، فأعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ، فَقَالَ أبُوهُ: أطِعْ أبا الْقَاسِم، فَقَالَ الْغُلامُ: : أشْهَدُ أن
__________
(1) في أ، و: "بكتابه".
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(4) في جـ: "أهل الكتابين".
(5) في أ، و: "وهو".
(6) في أ، و: "وذلك".
(7) في جـ: "الله".
(8) في أ: "وغير".
(9) في و: "من طوئف".
(10) في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
(11) صحيح مسلم برقم (153).
(12) في جـ، ر، أ، و: "الأسود والأحمر".

(2/26)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

لا إلَهَ إلا الله وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ (1) صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ النَّارِ" أخرجه البخاري في الصحيح (2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) }
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا، التي بلغتهم إياها الرسل، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم، وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم، إلا لكونهم دعوهم إلى الحقّ { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهذا هو غاية الكبر، كما قال النبي (3) صلى الله عليه وسلم: "الْكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْط النَّاسِ".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الزُّبَيْر الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري، نزيل مكة، حدثني أبو حفص عمر بن حفص -يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري-حدثنا محمد بن حمزة، حدثني أبو الحسن مولى لبني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: "رَجلٌ قَتَلَ نَبِيا أوْ مَنْ أمر بِالمْعْرُوفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَر". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [إلى قوله: { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] } (4) الآية. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبَا عُبَيَدَةَ، قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاثَةً وأَرْبَعين نَبيا، من أوَّلِ النّهَارِ في ساعةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَة (5) وسَبْعُونَ رَجُلا مِنْ بَني إسْرائيلَ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُم بالْمَعْرُوفِ ونَهَوْهُمْ عَنِ المنكرِ، فقتلوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهارِ مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ، فَهُم الذِينَ ذَكَرَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ".
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصّابي محمد بن حفص، عن ابن حُمَيْر، عن أبي الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، به (6) .
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
(2) المسند (3/175) والبخاري برقم (1356).
(3) في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
(4) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(5) في جـ، ر، أ، و: "مائة رجل".
(6) ابن أبي حاتم في تفسيره (1/161) والطبري في تفسيره (6/285) وأبو عبيد الوصابي لم يدرك محمد بن حمير كما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وقد توبع أبو عبيد، تابعه عبد الوهاب بن نجدة، فرواه البزار من طريق عبد الوهاب بن نجدة عن محمد ابن حمير به.
ثم قال البزار: لا نعلم له عن أبي عبيدة غير هذه الطريق، ولم نسمع أحدا سمى أبا الحسن هذا الذي روى عنه محمد بن حمير. وقال الحافظ ابن حجر: "فيه أبو الحسن مولى بني أسد وهو مجهول".

(2/27)


وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار، وأقاموا سوق بَقْلِهِمْ من آخره. رواه ابن أبي حاتم. ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة، فقال: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي: موجع مهين. { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }  (2/28) 


====من 22 الي 29ص=== 
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)  

التفسير من ابن كثير

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) 



{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) }
يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولَّوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.
ثم قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } أي: إنما حملهم وجَرّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام، عن كل ألف سنة في الدنيا يوما. وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة. ثم قال: { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [أي غرهم في دينهم] (1) أي: ثَبَّتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه، ولم ينزل الله به سلطانا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا: { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } أي: كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله، ومحاسبهم عليه، ومجازيهم به؛ ولهذا قال: { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } لا شك في وقوعه وكونه { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
__________
(1) زيادة من و.

(2/28)


قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) }
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد، معظما لربك ومتوكلا عليه، وشاكرًا له ومفوضًا إليه: { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي: لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي: أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن.
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان، والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ[ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (1) } أي: أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم (2) عليه في أمره، حيث قال: { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قال الله تعالى ردًا عليهم: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] (3) } الآية[ الزخرف : 32 ] أي: نحن نتصرف في خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة والحجة في ذلك، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد، كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا] (4) } [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "إسحاق بن أحمد" من تاريخه عن المأمون الخليفة: أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية، فعرب له، فإذا هو: باسم الله ما اختلف الليل والنهار، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك (5) .
وقوله: { تُولِجُ (6) اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ (7) النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان. وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء.
وقوله: { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } أي: تخرج الحبَّة من الزرع والزرع من الحبة، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: تعطي من شئت من المال ما لا يَعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين، لما لك
__________
(1) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(2) في أ، و: "تحكم".
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(4) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(5) تاريخ دمشق لابن عساكر (2/706 المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (4/264).
(6) في جـ، ر: "يولج".
(7) في جـ، ر: "يولج".

(2/29)


لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل. قال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا جعفر بن جسْر بن فَرْقَد، حدثنا أبي، عن عَمْرو (1) بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسْم اللهِ الأعْظَمَ الَّذي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، فِي هَذِهِ الآيةِ مِنْ آلِ عِمْرانَ: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ[ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (2) } (3) .
{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) }
نهى الله، تبارك وتعالى، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } أي: من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله كما قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء :144 ] وقال [تعالى] (4) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] (5) } [ المائدة : 51 ].
[وقال تعالى] (6) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى أن قال: { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [ الممتحنة : 1 ] وقال تعالى -بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب-: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 73 ].
وقوله: { إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } أي: إلا من خاف في بعض البلدان أوالأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: "إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ".
وقال الثوري: قال ابن عباس، رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء والضحاك، والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ[ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (7) } [ النحل : 106 ] .
__________
(1) في جـ، ر، أ: "عمر".
(2) في أ، و: "إلى آخر الآية".
(3) المعجم الكبير (12/172) وفي إسناده جسر بن فرقد، ضعيف.
(4) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(5) زيادة من جـ، أ، و، وفي هـ: الآية".
(6) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(7) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".

(2/30)


قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي: يحذركم نقمته، أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه.
ثم قال تعالى: { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي: إليه المرجع والمنقلب، فيجازي كل عامل بعمله.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي حسين، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون [بن مِهْران] (1) قال: قام فينا معاذ ابن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله إليكم، تعلمون أن المعاد [إلى الله] (2) إلى الجنة أو إلى النار (3) .
{ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) }
__________
(1) زيادة من جـ،ر، أ، و.
(2) زيادة من أ، و.
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/194). (2/31)
 
=====

من 30 حتي 37.

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

التفسير من 30 الي 37 ص

آل عمران - تفسير ابن كثير 


يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) }
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآناث واللحظات وجميع الأوقات، وبجميع ما في السموات والأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، وهو { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: قدرته (1) نافذة في جميع ذلك.
وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، وألا يرتكبوا ما نهى عنه وما يَبْغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإنْ أنظر من أنظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال بعد هذا: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ] (2) } الآية، يعني: يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر (3) كما قال تعالى: { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في الدنيا، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء: { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ].
ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي: يخوفكم عقابه، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه: { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "وقدرته".
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3) في جـ: "أو شر". (2/31)


قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه. وقال غيره: أي: رحيم بخلقه، يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم.
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) }
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ" ولهذا قال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } .
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنافِسي، حدثنا عبيد الله بن موسى عن عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَهَلِ الدِّينُ إلا الْحُبُّ والْبُغْضُ؟ قَالَ الله تَعَالَى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } قال أبو زُرْعَة: عبد الأعلى هذا منكر الحديث (1) .
ثم قال: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله ببركة سفارته.
ثم قال آمرًا لكل أحد من خاص وعام: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: خالفوا عن أمره { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس (2) الذي لو كان الأنبياء -بل المرسلون، بل أولو العزم منهم-في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ } الآية[ آل عمران : 31 ] [إن شاء الله تعالى] (3) .
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/202)، ورواه أبو نعيم في الحلية (8/368) والحاكم في المستدرك (2/291) من طريق عبد الأعلى بن أعين عن يحيى بن أبي كثير به.
قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه عبد الأعلى بن أعين، قال الدارقطني: ليس بثقة".
وقال ابن حبان: "يروي عن يحيى بن أبي كثير ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به بحال".
وقال العقيلي: "جاء بأحاديث منكرة ليس منها شيء محفوظ".
(2) في جـ: "الإنس والجن".
(3) زيادة من و. (2/32)


إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحا، عليه السلام، وجعله أول رسول [بعثه] (1) إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، سرا وجهارًا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به.
واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أم عيسى ابن مريم، عليهم السلام. قال محمد بن إسحاق بن يَسار (2) رحمه الله: هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا (3) ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان (4) بن رخيعم بن سليمان بن داود، عليهما السلام. فعيسى، عليه السلام، من ذرية إبراهيم، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام، إن شاء الله وبه الثقة.
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }
امرأة عمران هذه أم مريم [بنت عمران] (5) عليها السلام (6) وهي حَنَّة بنت فاقوذ، قال محمد بن إسحاق: وكانت امرأة لا تحمل، فرأت يوما طائرًا يَزُقُّ فرخه، فاشتهت الولد، فدعت الله، عز وجل، أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرته أن يكون { مُحَرَّرًا } أي: خالصا مفرغا للعبادة، ولخدمة بيت المقدس، فقالت: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي: السميع لدعائي، العليم بِنيتي، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكرا أم أنثى؟ { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرئ برفع التاء على أنها تاء المتكلم، وأن ذلك من تمام قولها، وقُرئ بتسكين التاء على أنه من قول الله عز وجل { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى } أي: في القوة والجَلَد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق؛ لأنه شرع من
__________
(1) زيادة من ج، ر، أ، و.
(2) في أ: "بشار".
(3) في و: "عزازيا".
(4) في ر، أ: "أثان"، وفي و" "أيان".
(5) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(6) في و: "سم".

(2/33)


قبلنا، وقد حكي مقررًا، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ وَلَد سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أبِي إبْرَاهِيمَ". أخرجاه (1) وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه، حين ولدته أمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَحَنَّكه وسماه عبد الله (2) وفي صحيح البخاري: أن رجلا قال: يا رسول الله، وُلِدَ لي وَلَد، فما أُسمِّيه؟ قال: "اسْم وَلدِك (3) عَبْد الرَّحْمَنِ" (4) وثبت في الصحيح أيضًا: أنه لما جاءه أبو أسَيد بابنه ليُحنّكه، فذَهَل عنه، فأمر به أبوه فَرَدّه إلى منزلهم، فلما ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سَمّاه المنذر (5) .
فأما حديث قتادة، عن الحسن البصري، عن سَمُرَة بن جُنْدُب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ غُلامٍ رَهِين (6) بِعقِيقتِهِ، يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، ويُسَمَّى وَيحْلَقُ رَأْسُهُ" فقد رواه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي بهذا اللفظ، ويروي: "ويُدَمَّى"، وهو أثبت وأحفظ (7) والله أعلم. وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقّ عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم. فإسناده لا يثبت، وهو مخالف لما في الصحيح (8) ولو صح لَحُمِل (9) على أنه أشْهَرَ اسمَه بذلك يومئذ، والله أعلم.
وقوله إخبارًا عن أم مريم أنها قالت: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أي: عَوَّذتها بالله، عز وجل، من شر الشيطان، وعوذت ذريتها، وهو ولدها عيسى، عليه السلام. فاستجاب الله لها ذلك كما قال عبد الرزَّاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا مَسَّه الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلّ صَارخًا مِنْ مَسِّهِ إيَّاهُ، إلا مَرْيَم َوابْنَهَا". ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أخرجاه (10) من حديث عبد الرزاق. ورواه ابن جرير، عن أحمد بن الفرج، عن بَقِيَّة، [عن
__________
(1) رواه البخاري تعليقا برقم (1303) ورواه مسلم برقم (2315) من حديث أنس بن مالك.
(2) رواه البخاري برقم (5470) ورواه مسلم برقم (2144).
(3) في جـ، ر: "ابنك".
(4) صحيح البخاري برقم (6186) من حديث جابر.
(5) رواه البخاري برقم (6191) ورواه مسلم برقم (2149) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(6) في أ، و: "رهينته".
(7) المسند (5/12) وسنن أبي داود برقم (2838) وسنن الترمذي برقم (1522) وسنن النسائي (7/166) وسنن ابن ماجة برقم (3165). وقد صرح الحسن بسماعه هذا الحديث من سمرة؛ لذا قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(8) وقال ابن القيم، رحمه الله، في كتابه "تحفة المودود في أحكام المولود" ص 67 بعد ما ساق قول الزبير بن بكار عن أشياخه: "هكذا قال الزبير وسماه يوم سابعه، والحديث المرفوع أصح من قوله وأولى".
(9) في جـ، ر: "يحمل".
(10) صحيح البخاري (4548) وصحيح مسلم برقم (2366).

(2/34)


فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

الزبيدي] (1) عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. ورَوَى من حديث قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُود إلا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيطانُ عَصْرَةً أو عَصْرَتَيْن إلا عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَمَرْيمََ". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (2) .
ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه مسلم، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عَمْرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة. ورواه وهب أيضًا، عن ابن أبي ذئب، عن عَجْلان مولى المِشْمَعَلِّ، عن أبي هريرة. ورواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث. وهكذا رواه الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، الأعرج (3) قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بني آدَمَ يَطْعنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِه حِينَ تَلِدهُ أمُّهُ، إلا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَاب" (4) .
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
يخبر ربنا (5) أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنه { وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي: جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا، ويَسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين. ولهذا (6) قال: { وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا } وفي قراءة: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية، أي جعله كافلا لها.
قال ابن إسحاق: وما ذاك إلا أنها كانت يتيمة. وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سَنَةُ جَدْب، فكفل زكريا مريم لذلك. ولا منافاة بين القولين. والله أعلم.
وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علما جما نافعًا وعملا صالحًا؛ ولأنه كان زَوْجَ خالتها، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير [وغيرهما] (7) وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصحيح: "فإذا بِيحيى (8) وعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ"، وقد يُطْلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا تَوسُّعا، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمَْزَةَ أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال: "الخَالَةُ بِمَنزلَةِ الأمِّ" (9) .
__________
(1) زيادة من أ، و.
(2) تفسير الطبري (6/339).
(3) في أ: "عن الأعرج".
(4) تفسير الطبري (6/342) ورواه أحمد في مسنده (2/523) من طريق أبي الزناد عن الأعرج به.
(5) في جـ، ر، أ، و: "تعالى".
(6) في جـ، ر، أ، و: "فلهذا".
(7) زيادة من و.
(8) في جـ، ر: "يحيى".
(9) صحيح البخاري برقم (2699) وصحيح مسلم برقم (1783).

(2/35)


ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها، فقال: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، وإبراهيم النخَعيّ، والضحاك، وقتادة، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفي، والسُّدِّي [والشعبي] (1) يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. وعن مجاهد { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } أي: علما، أو قال: صحفًا فيها علم. رواه ابن أبي حاتم، والأول أصح، وفيه دلالة على كرامات الأولياء. وفي السنة لهذا نظائر كثيرة. فإذا رأى زكريا هذا عندها { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا } أي: يقول من أين لك هذا؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سَهْل بن زنْجَلة، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا عبد الله ابن لَهِيعَة، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أيامًا لم يَطْعَمْ طعاما، حتى شَقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئًا، فأتى فاطمة فقال: "يا بُنَيَّة، هَلْ عِنْدَكِ شَيْء آكُلُهُ، فَإِنَّي جَائِع؟" فقالت: لا والله بأبي أنتَ وأمّي. فلما خَرَج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جَفْنَةٍ لها، وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (2) على نفسي ومن عندي. وكانوا جميعًا محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حَسَنا أو حُسَينا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) فرجع إليها فقالت له: بأبي وأمي (4) قد أتى الله بشيء فخَبَّأتُه لك. قال: "هَلُمِّي يا بُنيَّة" قالت: فأتيته بالجفنة. فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزًا ولحمًا، فلما نظرَتْ إليها بُهِتتْ وعرفَتْ أنها بركة من الله، فحمدَت الله وصلَّت على نَبِيِّهِ، وقدّمَتْه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فلما رآه حمد الله وقال: "مِنْ أيْنَ لَكِ هَذَا يَا بُنَية؟" فقالت (5) يا أبت، { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فحمد الله وقال: "الحَمْدُ للهِ الَّذي جَعَلَكِ -يا بُنَيّة-شَبيهَةِ بسيدةِ (6) نِساء بَنيِ إسْرَائيلَ، فَإنَّها كَانَتْ إذَا رَزَقَهَا اللهُ شَيْئًا فَسُئِلَتْ عَنْهُ قَالَتْ: { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَلِي (7) ثم أكل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي، وفاطمة، وحسن، وحسين، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعًا حتى شبعوا. قالت: وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت ببقيتها (8) على جميع الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا (9) .
__________
(1) زيادة من جـ، أ.
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3) زيادة من أ، و.
(4) في جـ، ر، أ، و،: "بأبي أنت وأمي".
(5) في أ: "فقلت".
(6) في ر: "سيدة".
(7) في أ: "وحملوا".
(8) في أ، و: "بقيتها".
(9) مسند أبي يعلى كما في المطالب العالية لابن حجر (4/74)، وفي إسناده عبد الله بن صالح متكلم فيه، وابن لهيعة ضعفه الجمهور. (2/36) 

  معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق